قبل أن يملكنا

لا يمكن الحديث عن الواقع الجديد في صناعة الإعلان والإعلام التقليدي (وهو الحديث الذي بدأناه في الأسبوع الماضي) دون الحديث عن الواقع الجديد في الإعلام الرقمي وخصوصاً صناعة المحتوى والبث الرقمي والتي قدرت حجمها بـ 30 مليار دولار في العام 2016 ويتوقع أن يصل الى 70 مليار دولار بحلول 2021، وهو بالطبع ما يعكس الزيادة الكبيرة في الطلب عليها ومشاهدتها مقارنة بالإعلام التقليدي.

وتعد نشأة وتطور شركة "نت فليكس" "Net Flex"، وهي الشركة الرائدة في هذا المجال خير مثال للتطور والتحول الذي حدث على مدار السنوات الأخيرة في تلك الصناعة. حيث تأسست عام 1997 كموقع إلكتروني لبيع وتأجير المحتوى الإعلامي على أقراص مدمجة "DVDs". وعندما بدأت شركة "أمازون" منافستها في بيع الأقراص المدمجة، توقفت عن البيع وتخصصت في الإيجار فقط. وتطلب ذلك الدخول في شراكة مع شركات انتاج المحتوى الترفيهي مثل كولومبيا ووارنر برازرز لأخذ الأسبقية في توفير هذا المحتوى لديها قبل بثه من خلال الوسائط الأخرى. وفي عام 2010 قامت الشركة بتدشين بوابتها الإلكترونية للبث الرقمي المباشر للمحتوى الترفيهي لعملائها بمقابل مادي. وبذلك، يستطيع المشاهد اختيار المحتوى الذي يرغب في مشاهدته في الوقت الذي يناسبه مع قدرته على التحكم في الجرعة الإعلانية التي يتعرض لها.

اليوم يبلغ عدد المشتركين في نت فليكس 104 مليون مشترك من 190 دولة وبلغت إيراداتها في نهاية 2016 8,8 مليار دولار. أما عن قيمتها السوقية فتبلغ 74 مليار دولار، وهي بذلك قد تخطت القيمة السوقية لكبرى الشركات الرائدة والعاملة في مجال الإعلام منذ سنوات طويلة مثل شركة "فوكس" التي يمتلكها أسطورة الإعلام "روبرت مردوخ". وقد شجع هذا النجاح والإقبال الكبير شركة "Net Flex" على الدخول في مجال انتاج المحتوى الإعلامي الخاص بها. حيث تقوم الشركة حالياً بإنتاج العديد من المسلسلات والأفلام ليتم عرضها حصرياً فقط على بوابتها. بل بلغت قيمة استثمارات الشركة في انتاج هذا المحتوى أكثر من 6,6 مليار دولار. فمثلاً قامت الشركة مؤخراً بإنتاج فيلم "Bright" للنجم العالمي "ويل سميث" الذي تكلف أكثر من 90 مليون دولار ليعرض لديها فقط ولن يتم عرضه على الإطلاق في دور السينما.

ونتيجة لما سبق، أدركت الشركات الرائدة في مجال الإعلام خطر هذا التحول من قبل المشاهد عليها فقررت هي الأخرى تدشين البوابات الخاصة بها للبث الرقمي مثل والت ديزني وشبكة "CBS" و "HBO" و "أمازون" وغيرها. بما يعني أن تلك الشركات الرائدة تضع استثماراتها الجديدة في وسائل الإعلام الرقمية أكثر من وسائل الإعلام التقليدية لكي تواكب التغير الذي حدث ويحدث في أنماط المشاهدة ولتحافظ على ريادتها في مجال لإعلام.

وبالطبع ليس هناك أدنى شك في أن كل ما سبق لا يقتصر تأثيره على صناعة الإعلان والإعلام فقط، بل يمتد تأثيره ليشمل الكثير من النواحي الثقافية والاستراتيجية والوجدانية. فإذا كنا نعترف بفضل وأهمية قوانا الناعمة التي اكتسبناها بفضل انتشار إعلامنا التقليدي ومحتواه على مدار سنوات طويلة، فيجب علينا التحرك سريعاً في مجال الإعلام الرقمي .. اعلام المستقبل الذي يجب أن نملكه قبل أن يملكنا.