الفارس يترجل

رغم أن عمره قد تجاوز الأربعة والتسعون عاما، إلا أن القرار الذي اتخذه الأسبوع الماضي بالتنحي عن إدارة شركته "بيركشاير هاثاواي" مع حلول نهاية العام الحالي، والتي أدارها لستة عقود، كان مفاجئا للجميع.  إنه رجل الأعمال الأسطوري وارين بافيت، الذي قرر أن يعمل قبل بلوغ سن الأحد عشر سنة في توزيع الجرائد اليومية على المنازل مقابل أجر 175 دولار في الاسبوع وبيع الطوابع وكرات الجولف المستعملة، معتمدًا كلياً على نفسه رغم أن والده كان عضواً في الكونجرس الأمريكي. وفي سن السادسة عشر، بلغت مدخراته 53 ألف دولار ، ليبدأ "وارين بافيت" رحلته في عالم الأعمال والاستثمار في الأسهم ويشتري شركه “The Berkshire Hathaway” التي كانت آنذاك شركة نسيج متعثرة. فما كان منه إلا أن أخرجها من عثرتها ومن نشاط المنسوجات محولا إياها إلى شركة عملاقة. وقد استمر في إدارتها منذ ذلك الحين متبعاً مقولته الشهيرة" لا يمكن أن ُتعقد صفقة جيدة مع شخص غير جيد". واستطاع بفضل عقليته الفذة أن يرفع قيمة سهم شركته من مائة دولار عام 1964 لتصل قيمتها السوقية اليوم 1.16 تريليون دولار، محققا إيرادات بلغت نحو 424.2 مليار دولار، وأرباحاً تقدر بنحو 115.6 مليار دولار في نهاية عام 2024.   وعلى الرغم من ذلك فهو لا يزال محتفظاً بتواضعه وبساطته؛ حيث يعيش في نفس المنزل الذي اشتراه بـ31500 دولار في خمسينيات القرن الماضي، ويركب سيارة كاديلاك لا تتجاوز قيمتها الخمسة وأربعون ألف دولار، ويستخدم هاتف محمول قديم لدرجة أنه يداعب منتقديه قائلاً بأن سر احتفاظه به يكمن في أنه هدية من "جراهام بل" مخترع الهاتف.  فهو يرى أن نعمة المال تبرز المعدن الحقيقي للإنسان، فلو كان سيئاً سيبرز ويظهر المال ذلك السوء بشكل أكبر ولن يحسنه. وربما يفسر ذلك الكثير مما نراه من حولنا من سلوكيات فجه من الأثرياء الجدد. كما أنه يؤمن بأن المعيار الحقيقي للنجاح هو حب الناس والقدرة على العطاء. وقد برهن على ذلك عملياً بأن أصبح أكبر متبرع للأعمال الخيرية على وجه الأرض بتبرعه بـ46 مليار دولار للأعمال الخيرية.  كما أوصي بكل ثروته للأعمال الخيرية بعد تجنيب 2 مليار دولار لأبنائه. فهو يرى أننا نستظل اليوم بأشجار زرعها من سبقونا، لذا يتوجب علينا أن نزرع أشجار يستظل بها غيرنا حين نرحل.  ولأنه صاحب مقولة "أفضل استثمار هو استثمارك في نفسك" فهو يقرأ اكثر من 500 صفحة يومياً على الرغم من تجاوزه الأربعة والتسعون عاما، والتي أتمها بالفعل.  وتؤكد واقعة تنحيه الأسبوع الماضي على نجاحه الساحق وفق معيار النجاح الذي وضعه لنفسه وهو حب الناس.   فقد احتفى به مجتمع الأعمال العالمي وكذلك وسائل الإعلام العالمية بشكل غير مسبوق لما رأوا فيه من قدوة وقصة كفاح ونجاح وتمسك بمبادئ وفضائل كثيرة. فهو يرى أنه لو آمن رجال الأعمال أن بناء سمعة جيده يستغرق عشرات السنوات وأن هدمها يستغرق 5 دقائق فقط لأعادوا النظر في كثير من أفعالهم.

 الآن، ومع اقتراب نهاية حقبة "بافيت" في بيركشاير هاثاواي، أوقن أن إرث وارن بافيت سيبقى حيًا.  وهو ليس إرثا ماديًا بقدر ما هو نموذجًا مشرفًا حري بالشباب الاقتداء به.  فقد أسس لمدرسة النجاح الذي لا يعتمد على الحظ، والرشاوي والوساطة بقدر اعتماده على المثابرة والانضباط، والتعلم المستمر، واتخاذ القرارات الحكيمة.  وقد استفادت  من فلسفته في الاستثمار والحياة أجيال وأجيال، سواء على المستوى المهني أو الشخصي.  لتبقى حكمته وإستراتيجياته الاستثمارية مصدر إلهام للأجيال القادمة بدلا من الأفاقين، و هم كثر!