غير مألوف

ساقتني الصدفه البحته قبيل شهر رمضان المبارك بأيام قليله لفتح جهاز التلفزيون في وقت غير مألوف للمشاهده التلفزيونيه، و قد كانت صدفه سعيده جدا. حيث استوقفني برنامج شيق تميز بالأداء الرصين لمقدمته المثقفه التي أحسنت إختيار ضيفها و محاورته. و هو الأمر الذي بات أيضا غير مألوف في خضم ما أصبح مألوف من منافسه محتدمه بين مقدمي البرامج الحواريه الذين يملئونالأوقات الأعلى مشاهده بـالصراخ و الحديث عن كل ما هو تافه و سطحي، مثل المتابعه الحثيثه لتطور خلافات إحدى المطربات مع زوجها، أو متابعة أحدث مشاجره لمطرب مهرجانات شهير، بالإضافه إلى التفنن في طرح اسئله شخصيه و محرجه لا تخصنا في شيء لضيوف تلك البرامج على اعتبار ان ذلك يعد دليلا على مهارة مقدمي تلك البرامج وتفوقهم. فبعيدا عن كل ذلك من ما بات مألوف مع الأسف، كان البرنامج المحترم الذي شاهدته بالصدفه، لأنه يذاع في وقت تنخفض فيه المشاهده مقارنة بالأوقات الأخرى. و هو برنامج "حديث العرب من مصر" الذي تقدمه الدكتوره العزيزه و الوزيره السابقه "دريه شرف الدين" . حيث استضافت فيه الروائي الكبير "ابراهيم عبد المجيد" ليدور بينهما حديثا شيقا و شديد الأهميه في نفس الوقت. لأن هذا الحديث يعتبر توثيقا لما كان عليه حال التعليم الحكومي لدينا و ما آل اليه اليوم. حيث أكد الروائي الكبير على الدور المحوري الذي قامت به مدرسته الحكوميه في اكتشاف و صقل موهبته الأدبيه منذ نعومة أظافره من خلال ما كانت توفره من انشطه و مناخ يشجع على الإبداع. حيث كانت توفر حصتين للقراءه الحره في مكتبة المدرسه، في وجود أمين مكتبه مثقف و مستنير. أسهمت مناقشاته معه في حثه على حب القراءه و الإتطلاع. و كذلك تأثير الرحله الأسبوعيه التي كانت تنظمها المدرسه لسينما "فريال" لمشاهدة أحدث الأفلام مقابل ثلاثة قروش شاملة الوجبه و الإنتقال بالأوتوبيس. ناهيك عن الإحتفال السنوي الكبير بعيد العلم، و الذي حصل فيه الكاتب ، و هو في الصف الأول الإعدادي، على جائزه تقديرا على تفوقه، و التي كانت عباره عن أربعة كتب في تاريخ الأدب العربي، و هو ما أسهم في نبوغه.

أتصور ان مقارنة ما سبق ذكره من حديث للكاتب عن أحوال مدرسته الحكوميه في الماضي بأحوالها في الوقت الحاضر كفيله بتفسير أسباب الكثير من المشاكل المزمنه التي نعاني منها حاليا. و بالمثل، تحدث الكاتب أيضا عن مسقط رأسه، مدينة الأسكندريه. حيث تعد ثلاثية الأسكندريه التي كتبها توثيقا هاما لنقاط التحول الرئيسيه التي أسهمت في انتقالها من ثاني مدينه في العالم تدخلها السينما عام 1895، و أكثر مدن العالم اتساعا و استيعابا لكافة الثقافات و الجنسيات و الديانات، إلى مدينه يغلب عليها الطابع السلفي. و أتصور أن بعضا من نقاط التحول تلك لم تسهم فقط في تدهور الأسكندريه، بل امتد أثرها السلبي على كافة أرجاء مصر. و هو ما يجعل تلك النقاط تستحق الدراسه المتعمقه، و يجعل رواياته ثلاثية الأسكندريه تستحق القراءه، و يجعل هذا البرنامج غير المألوف أولى بالمشاهده من البرامج المألوفة حاليا و التي أتمنى اللا نألفها أبدا!!