لقاء الغرباء

بات الحديث عن أثر التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي على حياتنا الاجتماعية والأسرية والعاطفية إقراراً لواقعاً نعيشه أكثر منه استشراقا للمستقبل. اجتماعياً، أصبح لدينا مئات الأصدقاء على شبكة التواصل الاجتماعي بعد أن كنا نحصي أصدقائنا على أصابع اليد الواحدة. ولكن تلك الزيادة الكمية أتت على حساب عمق هذه العلاقات ومتانتها والمشاعر الإنسانية التي تغلفها. أسريا، أصبح اللقاء اليومي المقدس لأفراد الأسرة في الالتفاف حول مائدة الطعام وتبادل الحديث الدافئ حول أحداث يومهم وأخبارهم جزء من التاريخ السحيق لعادات الأسرة المصرية، التي أصبح كل فرد فيها مستغرقاً في عالمه الافتراضي الخاص به حتى أثناء لقاءاتهم النادرة الحدوث. أما عاطفياً، فقد تحول الحب من أول نظره إلى حب من أول رسالة نصية، وأصبح الإعجاب يبنى على ما ينشره الشخص في صفحته على "الفيس بوك" بغض النظر عما إذا كان يعكس حقيقته أم الصورة التي يريد أن يراه الناس عليها.

ثم نأتي إلى العلاقات الإنسانية في محيط العمل والتي من دونها تصبح بيئة العمل صحراء قاحله لا تحتمل. وهي التي تحتل حيزاً كبيراً في حياتنا. فنحن نقضي يومياً على الأقل 8 ساعات في أماكن عملنا وهو ما يشكل 50%من عدد ساعات عمرنا، إذا ما أستقطعنا عدد الساعات التي ننامها يومياً. فمحيط العمل رغم قسوته طالما كان تربة خصبة للكثير من العلاقات العميقة التي أثرت حياتنا وأضافت اليها الكثير. فمن منا لا يدين بالفضل لمدير ما آمن بقدراته ووفر له أمكانيات النجاح ودفعه اليه، أو لزميل وقف بجانبه في وقت الشدائد، أو زمالة تحولت الى صداقة عمر أو حتى تحولت الى قصه حب أو شراكة عمر. حتى الشخصيات غير السوية التي لا يخلُ أي مكان عمل منها والمواقف الصعبة التي يتسببون فيها تكون في كثير من الأحيان قوة دافعة لإطلاق طاقة الإصرار والنجاح والمثابرة الكامنة فينا، لذا فنحن مدينون لهم أيضاً بذلك. وتبقى تلك العلاقات والمواقف واللحظات على مدار السنوات لتشكل أجمل ما نملك من ذكريات نذكرها ونتذكرها طالما حيينا. ولم تكن كلها لتنشأ دون الاتصال الإنساني الشخصي المباشر بين أفراد فريق العمل في أي شركة. ناهيك عما يعرف "بـcorporate culture" أو الثقافة الخاصة بكل شركة و هي مجموعة القيم والمعتقدات والأخلاق والمواقف التي تميز الشركة وتوجه ممارساتها. تلك القيم التي تستثمر كل شركة في تشكيلها ليس فقط من أجل خلق مناخ عمل صحي، و لكن لتتميز بتلك الثقافة عن الشركات الأخرى، و تكون عاملا هاما من عوامل ترسيخ ترابط العاملين الحاليين وولائهم للشركة و جذب عاملين جدد للعمل فيها.

الآن, و مع ما أحدثه فيروس الكورونا من تسارع شديد في التوجه نحو العمل من المنزل أو العمل عن بعد بوجه عام، و هو التوجه الذي أثبت الواقع انه لن يزول بزوال الوباء، بل على العكس فقد اتخذ خطوات أكثر تطرفا في تحويل ما تبقى من تواصل شخصي بين العاملين إلى تواصل افتراضي من خلال استخدام تكنولوجيا "الميتافيرس" في بناء أماكن العمل الافتراضية “virtual offices” لتحل محل مقرات العمل الحالية، فهل يصبح كل ما سبق ذكره عن علاقات العمل الإنسانية شيئا من الماضي و ذكرى تتندر الأجيال القادمه حين تسمع عنها؟ وهل سيكون تأثير هذا التحول مشابه لتأثير التطور التكنولوجي وشبكات التواصل الاجتماعي السابق ذكرها على علاقاتنا الأسرية والاجتماعية أم سيختلف؟ هل سيأتي اليوم الذي لا يلتقي فيه أعضاء فريق العمل الوحد؟ أم سيلتقون مصادفة ويكون كلقاء الغرباء؟ الله أعلم.